القرآن الكريم هو معجزة الإسلام الخالدة، وقد تكفل الله بحفظه في ألفاظه ومعانيه، ومن مظاهر هذا الحفظ تعدد القراءات التي نُقلت عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة. وقد نشأ علم خاص يُعنى بهذه القراءات، يُعرف بـ "علم القراءات"، وهو من أهم علوم القرآن، إذ يحفظ النص القرآني على اختلاف أوجهه المنقولة عن النبي، ويكشف عن بلاغته، ويُثري التفسير والفقه واللغة.
أولاً: تعريف علم القراءات
علم القراءات هو: العلم الذي يُعنى بكيفية نطق ألفاظ القرآن الكريم كما وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم من خلال نقل الرواة الثقات، مع بيان أوجه الاتفاق والاختلاف بينها.
والقراءة في الاصطلاح: وجه من وجوه النطق بالقرآن الكريم، مما ثبت نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند متواتر، ووافق العربية، ورُسم في المصحف العثماني.
ويفرق العلماء بين المصطلحات الآتية:
القراءة: نسبة إلى القارئ، مثل قراءة نافع أو ابن كثير.
الرواية: ما يُروى عن القارئ بواسطة أحد تلامذته، مثل رواية حفص عن عاصم.
الطريق: السند الذي يصل إلى الراوي، ويختلف بحسب من روى عنه.
ثانياً: نشأة علم القراءات
بدأ علم القراءات منذ نزول القرآن، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأه على أصحابه بأوجه متعددة تيسيراً عليهم. وقد ورد في الحديث الصحيح أن القرآن "أُنزل على سبعة أحرف"، وهي وجوه من الاختلاف في اللفظ دون المعنى.
في عهد الصحابة، حُفظت هذه القراءات بالتلقي، واشتهر بعضهم بقراءات معينة، مثل:
عبد الله بن مسعود في الكوفة.
زيد بن ثابت في المدينة.
أُبيّ بن كعب في الشام.
ثم جاء الإمام ابن مجاهد (ت 324هـ)، فجمع القراءات السبع المشهورة من بين ما تواتر واشتهر، مما ساعد على تقنين هذا العلم وتدوينه.
ثالثاً: شروط القراءة الصحيحة
اشترط العلماء لقبول القراءة القرآنية شروطاً ثلاثة، لا بد من توفرها مجتمعة:
-
صحة السند: أن يُنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند متصل صحيح.
-
موافقة وجه من وجوه اللغة العربية: حتى وإن كان ذلك الوجه قليلاً أو غير مشهور.
-
موافقة رسم من المصاحف العثمانية: سواء كانت هذه الموافقة كلية أو محتملة.
إذا اختل شرط من هذه الشروط، رُفضت القراءة ولم تُعتبر من القراءات القرآنية.
رابعاً: أهمية علم القراءات
لعلم القراءات مكانة عظيمة بين علوم القرآن، وتكمن أهميته في الأمور التالية:
-
الحفاظ على نص القرآن الكريم كما أنزل: إذ إن تعدد القراءات من مظاهر الحفظ الإلهي.
-
بيان إعجاز القرآن: فالقراءات تكشف عن ثراء لغوي وبلاغي فريد لا يوجد في غيره.
-
أثرها في التفسير والفقه: حيث تؤثر بعض القراءات في المعنى، مما يسهم في تنوع دلالات الآيات.
-
إثراء اللغة العربية: لأنها تحفظ ألفاظاً ولهجات عربية قد تندثر لولا وجودها في القراءات.
-
زيادة التيسير على الأمة: فالقراءات جاءت على سبعة أحرف تيسيراً على المسلمين في النطق والفهم.
خامساً: القراء المشهورون والرواة
من أشهر القراء الذين اعتمدهم العلماء:
-
نافع المدني – ومن رواته: قالون وورش.
-
ابن كثير المكي – ومن رواته: البزي وقنبل.
-
أبو عمرو البصري – ومن رواته: الدوري والسوسي.
-
ابن عامر الشامي – ومن رواته: هشام وابن ذكوان.
-
عاصم الكوفي – ومن رواته: شعبة وحفص.
-
حمزة الزيات – ومن رواته: خلف وخلاّد.
-
الكسائي – ومن رواته: الدوري وأبو الحارث.
ثم أضيف إليهم ثلاث قراء لاحقاً ليصبح العدد عشرة، وهم: أبو جعفر المدني، يعقوب الحضرمي، وخلف البزار.
علم القراءات القرآنية من أعظم العلوم الشرعية، فهو الحارس للنص القرآني في ألفاظه، والمُجلي لإعجازه اللغوي والبياني. وقد خدمه العلماء عبر العصور بالتدوين والتدقيق والرواية، فاستقر كما هو بين أيدينا اليوم. ومن واجب طلاب العلم دراسة هذا العلم وفهم أصوله ومناهجه، لأنه مفتاح لفهم القرآن فهماً أعمق.